رساله من المنفي

تحيّة … و قبلة … و ليس عندي ما أقول بعد
من أين أبتدي ؟ .. و أين أنتهي ؟ … و دورة الزمان دون حد
و كل ما في غربتي … زوادة ، فيها رغيف يابس ، ووجد
ودفتر يحمل عني بعض ما حملت … بصقت في صفحاته ما ضاق بي من حقد
من أين أبتدي ؟ … و كل ما قيل و ما يقال بعد غد
لا ينتهي بضمة.. أو لمسة من يد … لا يرجع الغريب للديار
لا ينزل الأمطار … لا ينبت الريش على
جناح طير ضائع .. منهد … من أين أبتدي … تحيّة .. و قبلة.. و بعد
أقول للمذياع … قل لها أنا بخير … أقول للعصفور … إن صادفتها يا طير
لا تنسني ، و قل : بخير … أنا بخير … أنا بخير
ما زال في عيني بصر ! … ما زال في السما قمر !
و ثوبي العتيق ، حتى الآن ، ما اندثر … تمزقت أطرافه
لكنني رتقته… و لم يزل بخير … و صرت شابا جاور العشرين
تصوّريني … صرت في العشرين … و صرت كالشباب يا أماه
أواجه الحياه … و أحمل العبء كما الرجال يحملون
و أشتغل … في مطعم … و أغسل الصحون
و أصنع القهوة للزبون … و ألصق البسمات فوق وجهي الحزين … ليفرح الزبون

قد صرت في العشرين … وصرت كالشباب يا أماه
أدخن التبغ ، و أتكي على الجدار … أقول للحلوة : آه
كما يقول الآخرون … ” يا أخوتي ؛ ما أطيب البنات ،
تصوروا كم مرة هي الحياة … بدونهن … مرة هي الحياة ” .
و قال صاحبي : “هل عندكم رغيف ؟ … يا إخوتي ؛ ما قيمة الإنسان
إن نام كل ليلة … جوعان ؟ ” … أنا بخير … أنا بخير
عندي رغيف أسمر … و سلة صغيرة من الخضار

سمعت في المذياع … قال الجميع : كلنا بخير … لا أحد حزين ؛
فكيف حال والدي … ألم يزل كعهده ، يحب ذكر الله
و الأبناء .. و التراب .. و الزيتون ؟ … و كيف حال إخوتي
هل أصبحوا موظفين ؟ … سمعت يوما والدي يقول :
سيصبحون كلهم معلمين … سمعته يقول
( أجوع حتى أشتري لهم كتاب )
لا أحد في قريتي يفك حرفا في خطاب … و كيف حال أختنا
هل كبرت .. و جاءها خطّاب ؟ … و كيف حال جدّتي
ألم تزل كعهدها تقعد عند الباب ؟ … تدعو لنا
بالخير … و الشباب … و الثواب ! … و كيف حال بيتنا
و العتبة الملساء … و الوجاق … و الأبواب ! … سمعت في المذياع
رسائل المشردين … للمشردين … جميعهم بخير !
لكنني حزين … تكاد أن تأكلني الظنون
لم يحمل المذياع عنكم خبرا … و لو حزين … و لو حزين

الليل – يا أمّاه – ذئب جائع سفاح … يطارد الغريب أينما مضى ..
ماذا جنينا نحن يا أماه ؟ … حتى نموت مرتين
فمرة نموت في الحياة … و مرة نموت عند الموت!
هل تعلمين ما الذي يملأني بكاء ؟ … هبي مرضت ليلة … وهد جسمي الداء !
هل يذكر المساء … مهاجرا أتى هنا… و لم يعد إلى الوطن ؟
هل يذكر المساء … مهاجرا مات بلا كفن ؟
يا غابة الصفصاف ! هل ستذكرين … أن الذي رموه تحت ظلك الحزين
– كأي شيء ميت – إنسان ؟ … هل تذكرين أنني إنسان
و تحفظين جثتني من سطوه الغربان ؟ … أماه يا أماه
لمن كتبت هذه الأوراق … أي بريد ذاهب يحملها ؟
سدّت طريق البر و البحار و الآفاق … و أنت يا أماه
ووالدي ، و إخوتي ، و الأهل ، و الرفاق …
لعلّكم أحياء … لعلّكم أموات … لعلّكم مثلي بلا عنوان
ما قيمة الإنسان … بلا وطن .. بلا علم
ودونما عنوان .. ما قيمة الإنسان … ما قيمة الإنسان
بلا وطن .. بلا علم … ودونما عنوان … ما قيمة الإنسان

للشاعر محمود درويش

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *